أنا والآخر.. شبابنا فيم يفكر
الشباب.. إفراز طبيعي لأداء المجتمع في زاوية بعيدة بإحدى الحدائق العامة كان يجلس بعض الشباب، اقتربت منهم لأشاركهم حديثهم الذي دار حول تجاهلهم من قبل المجتمع الذي -وفق آرائهم- لم يعد لأحد فيه الاستعداد بالاستماع لآمالهم وآلامهم؛ فالأسرة يعيش كل واحد فيها في شأنه الخاص، والأصدقاء كل في همومه غريق، والإعلام لا يجري إلا وراء كل ذي بريق. من هنا قررنا إخراج هذه الفئة التي تمثل عصب أي أمة من "الجيتو" الذي فُرض عليهم، أو فرضوه هم على أنفسهم، عبر جولة في عقولهم لنتعرف من خلالها على ما يفكرون فيه، وما يشغل بالهم بدون إطالة؛ فلنبدأ الرحلة..
الحلم والاستقلالية
كل ما يشغل فكري الآن هو أنني لا أجد ما يأخذ كل تفكيري ووقتي مثل بقية البنات، هذا ما بدأت به "وفاء حسني" (15 سنة)، وتستطرد قائلة: هذا الوضع يجعلني مشتتة ذهنيا، فضلا عن الشعور القاتل الذي ينتابني لفترات طويلة، والذي على أثره أتصور نفسي بلا فائدة في الحياة وبلا هدف أو طموح، ولست أدري إلى متى سأعيش رهن هذه الحالة.
أما "محمد صلاح" (17 سنة) فيقول: شيء وحيد أنام وأصحو عليه منذ فترة وهو حلم الانضمام لفريق كرة القدم في أحد الأندية الكبرى، والمشكلة في وقوف أبي ضد رغبتي هذه، ويصر عل دخولي الجامعة رغم عدم تحمسي لها وللتعليم بصفة عامة؛ فحبي الوحيد في الحياة لكرة القدم ولا شيء غيرها.
التقيت بزميلة لي في الجامعة وجمعت بيننا كل معاني الحب، والإخلاص، والتفاهم، وتعاهدنا على الارتباط مدى الحياة، ولكن اعتراض أهلها على إتمام هذا الارتباط هو العقبة؛ للفوارق الاجتماعية بيني وبينهم، كل ما أفكر فيه الآن ليس كيفية إتمام الارتباط بمن أحببت لأنه بات مستحيلاً، بل في كيفية العيش بدونها هذا ما قاله "يوسف عبد الرحمن" ذو العشرين عاما.
"أيمن محمد عبد السلام" يقول: الحمد لله ليس لديّ أي مشاكل مادية أفكر في حلها، ولكن ما يشغل بالي هو تدخل والدي في كافة شئون حياتي وهو ما حولها إلى جحيم، فجعل نفسه الوصي عليّ فهو من يفكر في مستقبلي ويخطط وينفذ، ولا عزاء لرغباتي وأمنياتي، بدءا من الكلية إلى اختيار من سأرتبط بها، فلماذا أفكر…؟
الهجرة والعائلة والمجتمع
كأي فتاة في سني لا أحلم إلا بالزواج والأسرة حتى يتم إنقاذي من حالة العزلة التي أعيش فيها بهذه النبرة الحزينة بدأت حديثها معنا "رانيا عاطف" (31 سنة)، وتمضي قائلة عن المجتمع: لست أدري لماذا ينظر إلى الفتاة التي يتأخر سن زواجها نظرة غير سوية؟ فضلا عن نظرات الشفقة التي تسبب لي الإحباط، رغم أن المسالة قسمة ونصيب.
أما "رقية برديسي" فلها مع الزواج قصة أخرى تقول عنها: مررت بتجربة زواج لم تكلل بالنجاح، وإن كانت أثمرت عن طفل يعيش معي بعد انفصالي عن أبيه، وكل ما أفكر فيه الآن هو هل سأنجح في حال زواجي مرة ثانية في الاستقرار ورعاية ابني، بخاصة أن مجتمعاتنا تكوّن انطباعًا غاية السوء عن المطلقة بدلا من تعاطفه معها..؟ هذا هو السؤال الذي أفكر في إجابته طول الوقت.
يقول "محمد علي" (21 سنة): القضية التي لا تفارق تفكيري هي الهجرة إلى أوربا وأمريكا؛ لأن هناك إمكانات تحقيق نجاحات أكثر من هنا، ورغم علمي بأني لن أجدها مفروشة بالورود أمامي فإنني مصّر على اتخاذ هذه الخطوة.
أما "أحمد الأمين محمد" فيقول: الدكتوراه وحصولي عليها هو كل ما أفكر فيه الآن بعد حصولي على الماجستير في الهندسة، حتى أتفرغ لحياتي الخاصة بعد عناء العلم والتعليم اللذين منعاني من الزواج والاستقرار حتى الآن.
خلافات والدي مع إخوتي المستمرة بسبب مهنته المتواضعة التي تسبب لهم الحرج، خاصة أنهم يعملون في أماكن مرموقة هي ما تأخذ كل تفكيري.. هكذا تقول "سميرة السيد"، ولست أدري لماذا يصر إخوتي على إيذاء مشاعر أبي، رغم أن هذه المهنة الشريفة هي التي علمتهم؟
ثقافة أزمة
من خلال الجولة السابقة التي قمنا بها في عقول الشباب للتعرف على ما يشغل فكرهم، وضح أن كل ما يسيطر على بالهم أمور متعلقة بالبحث عن فرصة عمل مناسبة، أو الزواج أو الحب، وبعضهم لا يجد ما يفكر فيه أصلا، وتلاشى تماما التفكير في القضايا العامة التي تهم وجودنا على خارطة العالم في ظل الظروف بالغة التعقيد التي تجري أحداثها على ساحة الأراضي المحتلة من تهديد لانتهاك مقدساتنا.
لتفسير هذا الوضع توجهنا إلى الدكتورة "فيفيان أحمد فؤاد" أستاذة علم النفس جامعة القاهرة، فقالت: يعد انحسار تفكير الشباب في القضايا الخاصة مثل العمل، والزواج شيئاً طبيعياً، أما الشيء غير الطبيعي فهو عدم اهتمامهم بالقضايا الواقعية الكبرى التي من المفترض أنها تحتل مساحة غير قليلة من تفكيرهم، ولعل ذلك مرده إلى يأسهم في التوصل إلى حلول جذرية لمثل هذه القضايا، من خلال الآليات التي يجري التعامل بها من قبل القادة مع هذه القضايا إعلامياً، مثل القضية الفلسطينية وبالتالي يجدون أنفسهم قد انصرفوا حتى عن متابعتها، وينكفئون على ذواتهم ومشكلاتهم الخاصة التي يمكن الوصول لحل لها، ناهيك عن سيادة ثقافة الأزمة التي يتغير فيها الناس وسلوكياتهم.
في أوقات المحن يتم إعلاء المصلحة الفردية على حساب المصالح العامة لدى هؤلاء الشباب، وتنتشر الشعارات التي يتداولونها بدون وعي، مثل: "يا عم دماغنا"، " يولعوا وأنا مالي"، وبجانب كل هذا يمكنني أن أضيف أن حالة الكبت التي تمارس على الشعب في التعبير عن رأيه بحرية قد تؤدي إلى انصرافهم عن تلك القضايا التي يُمنعون من التعبير عن آرائهم فيها، والتي لا يتم الاستجابة لمطالبهم فيها.
الشباب يعيش حالة اغتراب
أما الأستاذة "معتزة محمد سيد" المدرسة المساعدة بمعهد البحوث الدراسات التربوية بجامعة القاهرة، فتقول: ابتعاد شبابنا عن التفكير في القضايا الهامة على المستوى الوطني والقومي يعود في الأساس إلى ضعف الانتماء النابع من اغترابهم داخل المجتمع؛ وذلك ببساطة لأنهم في معظمهم اعتنقوا نمط حياة وعادات وتقاليد مجتمعات أخرى مختلفة عنا تماما. وذلك أيضا ناتج عن عدم قيام مؤسسات التنشئة الاجتماعية بدورها المنوطة به في دعم وغرس قيم الانتماء في نفوس هؤلاء الشباب، بدءا من الأسرة والمدرسة، مروراً بوسائل الإعلام، وتكون المحصلة من ذلك هو ضيق نظرة هؤلاء الشباب وانحسارها على دائرة مصالحهم فقط؛ ولذا أطالب بتطوير منهاج التربية الوطنية، والقومية التي كانت تدّرس في الماضي.
ويقول الدكتور "مجدي سعيد": لا أرى فيما يفكر فيه الشباب والذي عبروا عنه بصدق أي شيء غريب أو غير طبيعي، وإنني أتساءل: هل انتظار تعبير الشباب عن اهتمامهم بالقضية الفلسطينية ومعاناة شعب العراق، هو انتظار صحيح؟
ويستطرد قائلا: دعونا لا نحاكم هؤلاء الشباب الذين لا زال أغلبهم في طور التشكيل الفكري، دعونا نفكر في البيئة التي تشكل هؤلاء الشباب، والتي تموج بالكبت والاضطرابات العائلية، وتمحور أفراد الأسرة حول أنفسهم، والتي تموج بالاحتقان السياسي، والفساد الاقتصادي، والمظهرية، وتربية الشباب في مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام على التفكير في موضوعات بعينها، أو عدم التفكير في موضوعات أخرى بعينها. ثم لا يجب أن ننسى ظروف المعاناة الاقتصادية التي تعيشها الكثير من الأسر، والتي تفرز توترات اجتماعية، تجعل الشباب إما أن ينغمس في خضم تلك التوترات أو أن ينغمس في همومه وأحلامه الخاصة. إن هذا الشباب هو إفراز طبيعي لأداء المجتمع ككل على كافة الأصعدة.